صحافةمقالات

حمام علي من وادي البرتقال وجنة الحمضيات إلى ذكرى مؤلمة

المزارعون يسعون لاستعادة إرث زراعة البرتقال واليوسفي بعد مرور 20 عاماً على اقتلاع 70 ألف شجرة من الحمضيات

يعض المزارعون في وادي “حمام علي” أصابع الندم، وهم يرقبون بإحباط واديهم المغتال بآفة شجرة القات، بعد أن كان أشهر الوديان اليمنية المتلألئة بزراعة فواكه الحمضية ذات الجودة العالية، خاصة فاكهتي «البرتقال واليوسفي» وفواكه أخرى كـ الليمون والجوافة والمانجو.
لم يكن تراجع زراعة الحمضيات محصورًا في شجرة القات فحسب؛ إذ التهمت حشرة المن الأسود والأمراض القشرية والتصمغ أشجار الحمضيات هناك خلال النصف الثاني من التسعينيات، جنباً إلى جنب مع غياب الدعم والإرشاد الزراعي من الدولة، في تعميق الأزمة التي يعيشها هذا الوادي الخصب، الأمر الذي أجبر المزارعون على البحث عن بدائل زراعية تدر عليهم مصادر المعيشة.

اليمن الزراعية – رشيد البروي

في الجزء الشمالي الغربي من محافظة ذمار، تتربع مديرية المنار، ومركزها حمام علي، والتي يبلغ عدد سكانها 49.390 نسمة يمثلون 7.132 أسرة تقطن في 7.946 مسكناً، وفق التعداد العام للسكان والمساكن 2004م.
يبرز وادي “حمام علي” كواحد من أشهر الوديان اليمنية في زراعة الفواكه الحمضية خاصة البرتقال واليوسفي التي لطالما اشتهرت هذه المنطقة بإنتاج هذين الصنفيين بجودة عالية وقيمة غذائية منقطعة النظير، إلا أن العشرين عاماً الماضية شهدت تغييرات جذرية، إعادة تشكيل الوادي إلى صورة سوداء قاتمة بعد أن حلت شجرة القات محل الفواكه الحمضية، ما أثر سلباً على النسيج الزراعي في المنطقة ككل.

وادي البرتقال
“حمـــام علي” والمـوردة ســقاها
الـــبرتـقال واللـيم أحلا جـنــاهــا
كثيراً ما يتغنى المزارعون « نساء ورجال» من أبناء “حمام علي” بهذا البيت الشعري الشعبي في مهاجلهم الزراعية الغنائية، وفيه إشارة إلى « الموردة» أهم منبع مياه جاريه على مدار العام في المنطقة، وأشجار الحمضيات التي اشتهرت بها المنطقة « البرتقال والليم» وكذلك اليوسفي و المانجو وعنب الفلفل.
يعد المناخ في وادي “حمام علي” مثالياً لزراعة الحمضيات، فتناغم الحمضيات مع درجة حرارة الوادي التي تتراوح بين 20-30 درجة مئوية هي سر تفرد الوادي بإنتاج أجود أنواع هذه الفواكه، لكونها لا تتحمل درجات الحرارة المنخفضة، حيث تؤدي الرطوبة العالية إلى مشاكل فطرية، بينما الرطوبة المنخفضة تؤثر سلباً على نمو الثمار، وهو ما جعل وادي حمام علي يتباهى يوماً ما بزراعة 70 ألف شجرة من البرتقال واليوسفي فقط.
يقول الأستاذ عبدالولي البارق -أحد المزارعين في المنطقة-: «يبدأ وادي حمام علي من رأس نقيل المصنعة شرقًا، وبلاد الصافية في الجنوب الشرقي، مرورًا بوادي الجبر، وحتى أسفل بني سلامة إلى منطقة حباب غربًا، وصولًا إلى مدينة الشرق، وهذه المساحة كانت معظمها مزروعة بالبرتقال واليوسفي».
ويضيف: «اشتهرت هذه المنطقة بزراعة ستة أصناف من اليوسفي والبرتقال، منها اليوسفي المعنق، واليوسفي الحلو، والمصري، وغيرها، فيما كان هناك عدة أصناف من البرتقال، مثل السكري والعادي، والبرتقال أبو سرة، وكذلك المعنق، وكانت كلها تتصدر الجودة العالية على مستوى اليمن».

خطوة البداية
لقد مرت زراعة الفواكه الحمضية في وادي حمام علي بثلاث مراحل زراعية رئيسية:
1 – المرحلة الأول: تعود إلى عهد الدولة المتوكلية لآل بيت حميد الدين، حيث كانت الزراعة مقتصرة على بعض الحمضيات مثل البرتقال والليمون، بالإضافة إلى عنب الفلفل والمانجو والبن بشكل محدود جداً، رغم وفرة المياه الطبيعية في المنطقة من غيول وعيون جارية على مدار العام، حسب ما يرويه المزارع الحاج أحمد البارق (90) عاماً.
وهو ما أكده التاريخ في كتاب مجموع بلدان اليمن وقبائلها للمؤلف العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد الحجري اليماني (المتوفى: 1380 هـ) ، حين قال في محكم الكتاب : “وفي آنس بمنطقة «حمام علي» مزارع وعيون جارية، وفي أوديتها أشجار البن والقطن وفي بلاد آنس مزارع الذرة والبر والشعير والعدس، وقد غرس في بعض الأودية أخيراً أشجار البرتقال والليم العجيب الذي حبه في حجم الأترج، وصلح صلاحاً كاملاً ، وانتفع الناس بها وحملت على السيارات إلى صنعاء وتهامة وغيرهما.
2 – المرحلة الثانية: حدثت في العام 1978م، عندما استقدم اللواء عبدالله الحمدي، قائد قوات العمالقة آنذاك، فسائل ثلاثة أصناف لشجرة البرتقال واليوسفي ( اسباني – مصري – شامي).
3 – المرحلة الثالثة: بدأت في نهاية الثمانينات، حيث تم استقدام فسائل جديدة من البرتقال، ويُرجح أنها كانت أمريكية، وفقاً لشهادات المزارعين في المنطقة.
الزمن الجميل
يتذكر المزارع عبد الله الشاوش تلك الأيام الجميلة، ويقول: “لقد كانت أفضل أيام حياتي عندما كنا نجني فواكه البرتقال واليوسفي، ونخرج لبيعها صوب تعز وصنعاء وأحيانًا الجوف”.
ويضيف: “سوق البرتقال في تعز كان الأفضل، لأنها كانت المحافظة المعنية بتزويد المحافظات الجنوبية بالبرتقال لقربها الجغرافي.”
ويعكس تاجر الحمضيات علي البارق حجم النشاط التجاري في تلك الفترة بقوله: “أثناء موسم الحصاد، كانت تخرج يوميًا من حمام علي سبع إلى ثمان سيارات محملة بالبرتقال واليوسفي صوب صنعاء، ومثلها صوب تعز، وكنا نبيع السلة بـ8 آلاف ريال، تعادل 80 ألف ريال اليوم “.
من جهة أخرى، يتحدث الحاج علي معافا، وهو مزارع سابق في المنطقة، عن ذكرياته مع زراعة الحمضيات فيقول: “كنت أمتلك ما يقارب 500 شجرة برتقال، وكانت حياتنا في خير ونعمة لا مثيل لها، ولم نكن نقتصر على محصول فاكهة البرتقال واليوسفي فقط، بل كنا ننقل معظم فسائل البرتقال المزروعة في مأرب من وادي حمام علي”.
ويضيف معافا: “كنت أحمل سيارتي بشتلات من أشجار البرتقال واليوسفي وأنقلها لأبيعها في مأرب.”

أسباب قلع أشجار البرتقال
70 ألف شجرة يتم اغتيالها بدمٍ بارد، وبسياسية القتل السريع، تستدعي البحث عن الأسباب والدوافع التي حولت وادي البرتقال إلى وادي شبه أجرد خال من الفواكه، في جولة ميدانية شملت عددًا من المزارعين والمختصين، تم تسليط الضوء على أسباب انتهاء زراعة البرتقال واليوسفي، في هذا الوادي.
المزارع “عبدالله الشاوش” أكد أن “انتشار حشرة المن الأسود منذ التسعينات كانت له الآثار المدمرة على أشجار الحمضيات، فقد أصيبت معظم الأشجار بأمراض قشرية وتصمغ، ما أدى إلى ضعف الجذع وظهور نقاط سوداء على الأوراق، نتيجة لذلك، كانت الفاكهة تتساقط قبل أن تنضج، وقد فاقم غياب الإرشاد الزراعي من هذه المشكلة، معتبراً ذلك أحد الأسباب الرئيسة التي أجبرت أبناء قريته « عشروس» باقتلاع ما يقارب أربعة آلاف شجرة.
فيما يشير المزارع عبد الولي البارق إلى أن “توسع زراعة شجرة القات منذ عام 1995 وحتى الآن كان له التأثير الكبير، حيث أصبحت زراعة القات أكثر ربحية مقارنة بالبرتقال، مما دفع العديد من المزارعين لتحويل أراضيهم إلى زراعة القات.
من جانبه، يوضح أكرم دوس، مدير مكتب الزراعة في مديرية المنار، أن “غياب دور وزارة الزراعة سابقاً في ترشيد زراعة الحمضيات كان له الأثر السلبي الكبير، فلم يتم تزويد المزارعين بالمهارات اللازمة لزراعة الشتلات والتعامل مع الأشجار الحمضية بتقنيات حديثة، مما أثر على جودة المحاصيل، وأثر أيضاً في الاستمرارية بزراعتها”.
كما أن زراعة القات قد أثرت على توفر المياه تأثيراً كبيراً، حيث أن القات مستنزف للمياه بنسبة أكبر من الحمضيات بحوالي خمس مرات، ولذلك فبعد إزالة الحمضيات، وزراعة القات غارت المياه في باطن الأرض، فيما كانت من قبل جارية على السائلة، كما يقول أكرم دوس.
أما المهندس فؤاد الكوري، مدير دائرة الإرشاد الزراعي في محافظة ذمار، فقد أضاف: “معظم أشجار الحمضيات قد بلغت سن الشيخوخة، مما أدى إلى انخفاض إنتاجيتها، في ظل غياب الدعم الحكومي في تزويد المزارعين بالشتلات الزراعية الجديدة، لم يكن هناك جهد لإعادة إحياء زراعة الحمضيات.”
ويلفت الكوري إلى أن “تسويق البرتقال كان يواجه تحديات كبيرة في السابق وفي الوقت الحالي أيضاً، إذ كان مقتصرًا على السوق المحلي اليمني، مما حدّ من فرص التصدير إلى الخارج، وهو ما أعاق تحفيز المزارعين للاستمرار في زراعة الحمضيات”.

تطلعات المزارعين
يتطلع المزارعون في حمام علي اليوم إلى العودة لزراعة الحمضيات، خاصة بعد انهيار أسعار القات في المنطقة، بسبب ضعف جودته مقارنة بما تنتجه المناطق اليمنية الأخرى، هذا الوضع دفع العديد نحو زراعة الحمضيات، رغم افتقارهم للدعم الأساسي من الدولة.
فخلال السنوات القليلة الماضية، بدأ مكتب الزراعة في المديرية، بعد تلقي دعم بسيط من مكتب الزراعة ووحدة تمويل المشاريع والمبادرات الزراعية في المحافظة، في تأهيل مشتل زراعي خاص بالحمضيات.
وفي هذا السياق، يقول “أكرم دوس “: “ابتداءً من أكتوبر 2023، بدأنا جهودًا ذاتية لزراعة النارنج (أصول حمضيات) بالإضافة إلى البن والجوافة والخرمش والأفوكادو.”
ويضيف دوس: “لقد تلقينا دعمًا من مدير مكتب الزراعة في المحافظة الدكتور عادل عمر بـ2000 شتلة بن و1000 شتلة حمضيات وهي كلها جاهزة للبيع من مشتل جبل الشرق ومشتل رصابة، وقد ساعدتنا هذه الشتلات بشكل متوسط على التشغيل وزراعة بعض الشتلات الجديدة، لكن، هذا الدعم لا يكفي لتحقيق الإنتاج المطلوب.”
من جهة أخرى، يرى خبير التسويق معين المصنعي أن الدولة معنية بإنتاج شتلات حمضيات ممتازة وتطعيمها بأصناف عالية الجودة وتوزيعها على المزارعين بشكل مجاني، فإذا توفر المشتل من سيوفر التطعيم ومن سيهتم بتمويله وتوفير احتياجاته، وهو ما يتفق معه الأستاذ عبده الشاوش، الذي يؤكد أن بيع الشتلات للمزارعين لن يجدي نفعاً، حيث أن المزارعين يعانون من الضغوط الاقتصادية في ظل وجود البديل ممثلا بشجرة القات ذات المدخول السريع.
ولكي تنجح إعادة زراعة الحمضيات وتُحد من زراعة القات، يرى الشاوش أن توزيع الشتلات مجاناً وتوفير آبار خاصة لري مزارع الحمضيات أمر ضروري يجب أن تتكفل به الدولة.
كما يؤكد جميع المزارعين أن توفر المياه والشتلات الممتازة هو المطلب الوحيد الذي يتطلعون إليه لإعادة زراعة الحمضيات في المنطقة كما كان الحال في السنوات الماضية.

مستقبل مجهول
ويرى مدير مكتب الزراعة في المحافظة “عادل عمر” أن ما تعرضت له منطقة حمام علي خلال العشرين السنة الماضية كان بحق وحقيقة تفريط من الجميع ( المزارع – والدولة) فعدم تزويد المزارعين بالشتلات والمشاريع الزراعية والمختصين في الارشاد الزراعي قد أدى إلى كارثة زراعية في المنطقة تمثلت باستئصال أشجار الحمضيات.
ويؤكد عمر أن وزارة الزراعة في هذه المرحلة تولي منطقة “حمام علي” أهمية خاصة، فهناك توجهات جادة لإعادة زراعة الحمضيات في هذه البيئة الغنية بإرثها الزراعي لهذه الفواكه.
وبما أن المناخ المناسب مع حاجة الحمضيات المناسبة مع الحرارة، هو المعيار الأول لنجاح تجربة زراعة الحمضيات في وادي حمام علي، بالإضافة إلى توفر المياه القريبة من مستوى سطح الأرض ببضعة أمتار في فصل الشتاء وجريانها في السائلة بشكل مستمر في فصلي الصيف والخريف، يقول المهندس الزراعي فؤاد الكوري :” تفضل هذه الأشجار التربة الرملية أو الطينية الخفيفة، مع مستوى pH يتراوح بين 6-7، وهي متوفرة في هذا الوادي بشكل ممتاز جدا،
ويضيف:” عند زراعة هذه الشتلات، يُفضل استخدام الشتلات بدلاً من البذور، خاصة للزراعة التجارية، كما يجب أن تكون المسافات بين الأشجار حوالي 4-6 أمتار لضمان توفير مساحة كافية لنمو كل شجرة، ويتم حفر حفرة بعمق 50-60 سم وعرض 50 سم، مع التأكد من أن طوق الجذر مستوٍ مع سطح التربة عند وضع الشتلة”.
وينصح الخبير في التشجير الزراعي ” محمد حويس: ” تتطلب أشجار الحمضيات رعاية خاصة لضمان نموها وإنتاجيتها، يُفضل الري المنتظم، خاصة خلال فترات الجفاف، مع تجنب الري الزائد الذي قد يؤدي إلى مشاكل في الجذور، كما يُنصح بتسميد الأشجار بالأسمدة العضوية والكيميائية المتوازنة خلال فترات النمو.
ويضيف :” قد تواجه أشجار الحمضيات بعض المشاكل مثل الأمراض الفطرية، مثل العفن، وآفات مثل حشرة المن. لذا، يجب مراقبة الأشجار بانتظام واستخدام المبيدات العضوية أو الكيميائية عند الحاجة للحفاظ على صحتها”.
ولا يزال الكثير من المزارعين في المنطقة ينظرون لأراضيهم الزراعية كمستقبل مجهول في ظل أملهم الكبير بالدعم والاهتمام من وزارة الزراعة لإعادة ما تم تدميره خلال السنوات الماضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى