
تحت سماءٍ صافية، وعلى أنغام هدير المياه المتدفقة، انطلقت رحلتنا في الصباح الباكر من مدينة إب الخضراء، نحو مديرية العدين، حيث تتشابك خيوط التاريخ والحاضر في لوحة طبيعية خلابة، الأشجار والخضرة تكسو جبالها، ما إن وصلنا إلى وادي مناح، ووادي الدور ووادي عنه، حيث كانت الأشجار العملاقة مظلة خضراء كثيفة، تغطي جانبي الطريق، وكأنها ترحب بنا إلى عالم من الخضرة والحيوية، كانت المياه تجري في الوادي، وتحولت إلى نهر صغير يجري من بين الأشجار.
كان مشهداً غايةً في الجمال، وواصلنا رحلتنا، وسيارتنا الشجاعة تشق طريقها عبر المياه، وكأنها سفينة تبحر في أعماق الوادي، وما إن وصلنا إلى قلب الوادي، حتى وجدنا أبناء المنطقة في استقبالنا مع الجانب الرسمي في المديرية ومكتب الزراعة.
اليمن الزراعية – | محمد حاتم
العدين موطن البن:
تعتبر مديرية العدين من أهم مناطق زراعة البن في اليمن، حيث تشتهر بجودة حبوبها ونكهتها الفريدة.. يعود تاريخ زراعة البن في هذه المنطقة إلى قرون مضت، وقد ورث المزارعون هذه الحرفة عن أجدادهم.
ومع ذلك، فوجئنا خلال رحلتنا باكتشاف مثير للقلق، فقد لاحظنا أن زراعة البن كادت أن تندثر، فأشجار البن قد أصبحت مهجورة، وأخرى بدأت تفقد عافيتها، وزراعته انحسرت في مساحات صغيرة.
تحدثنا إلى بعض المزارعين، حيث أكد لنا المزارع إبراهيم عبده قائد أحد أبناء وادي مناح أن زراعة البن تواجه تحديات كثيرة، منها شحة المياه، وارتفاع تكاليف الإنتاج، ورخص ثمن البن عند البيع، وعدم اهتمام الجهات المعنية، بالإضافة إلى انتشار الأمراض والآفات التي تهدد شجرة البن.
ويشير إلى أن التوسع في شجرة القات كان أحد الأسباب التي جعلت المزارعين يعزفون عن زراعة البن، حيث توجه الكثير منهم لاستبدالها بشجرة القات؛ نظراً لربحها السريع، مما أدى إلى تراجع مساحات الأراضي المزروعة، بهذا المحصول الثمين.
حياة تتجدد
وعلى الرغم من هذه الصدمة، وجدنا أيضاً قصصاً ملهمة عن صمود المزارعين، وتعلقهم بأرضهم، فهم يعملون جاهدين للحفاظ على هذا التراث الزراعي الثمين، رغم التحديات التي يواجهونها، فكان المزارع محمد داوود من وادي الدور الذي زرناه، فكانت المفاجأة، حيث وجدنا اشجار البن عامرة في مزرعته.
يقول المزارع محمد داوود إن شجرة البن في وادي الدور لها تاريخ عريق، ومتجذرة منذ مئات السنين، وترتبط بهوية وأصالة الشعب اليمني، وهو يولي هذه الشجرة جل اهتمامه، ويعطيها وقته، ويعتني بها، وهي تبادله الوفاء، وتعطيه ثمارها ذات اللون الأحمر.
كما التقينا بمدير فرع مكتب الزراعة بمديرية العدين المهندس جابر مقبل عبد الملك ، لافتاً إلى أن زراعة البن في مديرية العدين تتركز في 22 عزلة في الوديان ذات المياه الجارية والمدرجات الجبليه، موضحاً أن عدد الوديان في المديرية 98 وادي موزعة بين العزل، وتنتشر زراعة محصول البن في أغلب عزل المديرية، مضيفاً أن الكميات المنتجة من البن تقدر بقرابة 14 طناً.
تاريخ عريق
ويستشهد مدير الزراعة بتاريخ البن العديني، والذي يعود بحسب تصريحاته إلى ما قبل القرن الخامس الميلادي، وما قبل الإسلام.
ويضيف: “توسعت زراعة البن بالعدين بشكل خاص، وبقية الممالك السبئية والحميرية وفى باقي المحافظات وأثناء سيطرة ملوك اليمن على افريقيا والحبشة تم زراعتها في اثيوبيا والحبشة بفضل اليمنيين التي ما زالت أصولهم هناك حتى يومنا هذا.
وبما أن مديرية العدين كانت أحد مواقع محطات القوافل التجارية القديمة، والتي كانت تحمل عبرها البضائع من سواحل عدن والمخاء والحديدة إلى صنعاء ثم مكة، والمدينة، و حتي الشام، وكانت معروفه آنذاك بدرب أسعد، وبعد الاسلام عرفت بطريق الحجيج، حيث اكسبته مديرية العدين بمناظرها الطبيعية الخلابة، وحماماتها البخارية، وتنوع محاصيلها الزراعية ميزة جعلها محط أنظار الزائرين، فضلاً لتنوع المحاصيل الزراعية، التي اشتهرت بها، ومن أهمها محصول البن، حيث وجد المسافرون مكاناً لحط رحالهم في مركز العدين ونواحيها للراحة، وشرب البن، والتزود من المنتجات المحلية لأغراض تجارية، ومن أهم تلك المنتجات هو محصول البن، والعسل، وقصب السكر، والتمر الهندي البلس، حب العزيز، وبعض الصناعات الأخرى مثل الفخار، والقماش، والسلال، والمصنوعات اليدوية، والأطباق، وغيرها التي كانت تحمل عبر قوافل تجارية، إلى مناطق أخرى من اليمن وخارج اليمن، مكة والشام، وغيرها، حتى زادت شهرته أثناء الغزوات الأجنبية على اليمن.
مميزات البن العديني
ويشير المهندس جابر إلى أن البن العديني يتميز بنكهة وطعم متوازن وحلاوة معتدلة في نفس الوقت، ولها رائحة نفادة كرائحة الشكولاتة، ومن مميزات البن العديني، ازدياد الطلب العالمي عليه، والدليل على الميزة التي يحظى بها البن العديني هي تبني زراعتها في البرازيل من قبل كبار الخبراء والمختصين الزراعيين بأصناف البن اليمني، واختيارهم لصنف البن العديني دون غيره، وهذا يدل على المميزات التي تتمتع بها شجرة البن العديني.
ويضيف: “من ضمن مميزات شجرة البن العديني أنها معمرة تدوم انتاجيتها، وتستمر لمدة طويلة ما يقارب مائة عام، وتقل انتاجيتها مع التقدم في العمر إذا لم تجد، كما تتميز أيضاً باللون بعد التحميص، باللون الأسود البني الداكن الذي سرعان ما يتحول إلى اللون البني عند خلطها.
وتمتاز ثمار البن العديني بتحملها للظروف الصعبة، والتخزين والمقاومة للظروف الخارجية، بالإضافة إلى مقاومته للأمراض، والآفات الحشرية عن غيرها من الأصناف الأخرى، كما أن الثمار التي تنضج، ولم تقطف تبقى في الغصن مدة أطول حتى تجف، وتيبس الثمرة دون أن تسقط، وتبقى محتفظة بمحتواها إلى ما قبل الموسم، وهذه ميزة فريدة.
ويقول مدير فرع الزراعة إن قهوة البن العديني تقاوم التخمر مع السكريات لمدة أطول من الأصناف الأخرى، ويظل الطعم ثابتاً، دون أن يتغير، أو تتغير رائحته عند التخزين، وفي الأكياس التي تعبأ فيها.
ويبين جابر مقبل أن زراعة البن تنتشر في أغلب الوديان الرئيسة، والمشهورة، مثل وادي الدور، ووادي عنه، ووادي القاسمية، ووادي مناح، ووادي بجمة، ووادي المسرب، ووادي نخع ووادي شبز، حيث أن أغلب عزل المديرية ما زالت فيها أشجار البن في الوديان والمرتفعات الجبلية، وعلى المدرجات، وقمم الجبال، لكنها مهملة في وقتنا الحاضر، وأغلب مناطق العدين دائمة الخضرة لتوفر العيون الغيول المائية.
ويشير إلى أن واقع شجرة البن العديني، كوقع البن اليمني بشكل عام، حيث تراجعت زراعته خلال الأعوام الأخيرة، وتدهورت خلال العدوان بسبب تدهور الوضع المعيشي و المادي لأغلب الأسر الريفية، و ارتفاع التكاليف المعيشة، وقلة دخل الأسرة الريفية، بالإضافة، لهجرة الكثير من أبناء المديرية سواء هجرة خارجية، أو داخلية، وهذا يتسبب في تقلص المساحات المزروعة، وتوجه معظم المزارعين نحو زراعة القات، بدلاً عن شجرة البن في الوديان المروية والجبال، حيث أن المزارعين يبحثون عن الربح السريع، لتغطية نفقات الأسر، وتغطية أجور اليد العاملة، بسبب تدني أسعار البن.
تحديات وآمال معلقة
ويستعرض مدير فرع الزراعة بالعدين التحديات التي تواجه زراعة البن، ومنها انتشار زراعة القات، والزحف العمراني، وانجراف التربة بسبب السيول، والتحطيب الجائر، وعوامل التعرية، وانتشار الأمراض والآفات الزراعية التي تقلل من كميات الإنتاج، وتضعف من جودة المنتج.
ويعول المزارعون في مديرية العدين باستعادة أمجاد الآباء، والأجداد في زراعة البن؛ نظراً لاهتمام القيادة الثورية والسياسية بالقطاع الزراعي، ومنها زراعة البن، مستبشرين بزيارتنا مع رئيس المؤسسة العامة لتنمية وتسويق البن الأستاذ مانع العسل، ومدير عام مكتب الزراعة بمحافظة إب المهندس حمود الرصاص، ورئيس اتحاد جمعيات منتجي البن الأستاذ محمد عثمان، ومدير عام تنمية البن المهندس محمد حارث، مثمنين جهودهم، ونزولهم إلى مزارع البن، وتلمس هموهم .
إن رحلتنا إلى وادي مناح، ووادي الدور كانت بمثابة رحلة إلى قلب التاريخ، حيث اكتشفنا جمال الطبيعة، وعراقة التراث الزراعي اليمني، كما وجدنا كرم الضيافة اليمنية الأصيل يتجسد في أكمل صوره، فقد استقبلنا أهالي العدين بابتسامات عريضة، ووجوه مشرقة، وقدموا لنا أنواع القهوة اليمنية، والأكلات الشعبية الشهيرة.
