تقاريرصحافة

الموروث الشعبي الزراعي

عمــق حضـــاري وإرث معــرفــــي

يحكي المُزارع عبد الخالق حنيش من بني مطر عن تجربته الطويلة في الزراعة، وكيفية استخدامه للموروث الشعبي الزراعي في أعماله الزراعية اليومية.

ويقول: “نحن هنا نزرع العديد من المحاصيل الزراعية مثل الحبوب بأنواعها المختلفة: البر، الشعير، الذرة بكل ألوانها (الأحمر، الأبيض، والأصفر)، بالإضافة إلى العدس، والفول، والفاصوليا، كما أن للموروث الشعبي الزراعي دوراً مهماً في تحديد أوقات الزراعة وطرق المعاملات الزراعية بمختلف أنواعها من الحرث للسقي والحصاد”.

اليمن الزراعية – |الحسين اليزيدي

المُزارع عبد الخالق حنيش هو واحد من جزء كبير من المزارعين اليمنيين الذين يعتمدون على الموروث الزراعي في كل الممارسات الزراعية، وبذلك شكل ويشكل لهم هذا الموروث نظاماً زراعياً متكاملاً أبعدهم عن الزراعة الصناعية الكيميائية.
ويضيف المُزارع حنيش: “من بين أبرز الأمثال الشعبية التي نستخدمها في الزراعة مثل ‘اذر ثلاث عشر يوافق نباته هداعش’ الذي يرمز إلى بداية فصل القيض، ووقت بدء الزراعة في الثالث عشر من شهر القَرْنِي، كما نستخدم ‘ما خرجك يا زيل من العرام قال بتلت كوانين’، وهي عبارة نرددها عند الحديث عن حراثة الأرض في فترة كوانين.”
ويذكر المُزارع حنيش بعض الأبيات الشعرية التي تبقى حية في ذاكرة المزارعين في المنطقة، مثل: “قلبت مالي يابسن يايبست يا قدرة الله ماعليش سابس”، وهي تعبير عن تأثير المطر على الأرض الزراعية في فصل الشتاء، حيث تشير إلى أن الأرض تتنفس مع نزول الأمطار. ويضيف: “هناك أيضًا قول آخر شائع في منطقتنا مثل ‘هايمة هايمات الوادي’ الذي يصف حالة الأراضي الجافة التي تنتظر الأمطار بشغف.”
“نستطيع القول إن الموروث الشعبي الزراعي ليس مجرد كلمات، بل هي ثقافة كاملة تُسهم في نجاح الزراعة وحمايتها. وتلك الأمثال والأبيات تربطنا بالأرض، وتمنحنا الإرشادات المهمة في أوقات الزراعة والحصاد.
ويواصل حنيش: “نحن لا نزرع وفقًا للتقويم الزمني فقط، بل بناءً على ما علمتنا إياه الأرض، وهكذا يبقى الموروث جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.”

من منظور علمي
وعلى صعيد متصل، يتحدث الباحث في التراث الزراعي مروان جبار، وهو أحد أعضاء مؤسسة بنيان التنموية عن أهمية الموروث الزراعي بقوله: “الموروث الشعبي الزراعي هو عبارة عن إرث ثقافي ومنظومة معرفية عميقة استندت إلى ملاحظات دقيقة للبيئة على مدى قرون”.
ويربط جبار بين ما قاله المزارع حنيش عن استخدام الأمثال لتحديد مواعيد الزراعة، وما أضافه حول دور النجوم والمعالم الزراعية، مستدلاً بقوله تعالى: [ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون] صدق الله العظيم.
ويرى أن هذا الارتباط السماوي بالأرض جعل للنجوم أهمية كبيرة في توجيه العمليات الزراعية، من تحديد أوقات الري إلى زراعة المحاصيل وتلقيح النباتات”.
ويشير إلى أن الاعتماد على النجوم كان الأساس في الزراعة اليمنية القديمة، حيث استُخدمت مواقع النجوم لتحديد المواعيد المثلى للزراعة والحصاد، وكذلك العمليات الأخرى مثل حراثة الأرض وقطع الأشجار، مضيفاً: “للأسف، تراجع هذا الموروث بسبب ضعف الاهتمام ونقص التوثيق العلمي لهذه المعارف.”
ويركز جبار على ضرورة توثيق الأمثال والحكم الزراعية، موضحاً أن ما يبدو تراثاً شفهياً بسيطاً يحمل في طياته تجارب علمية دقيقة، مستشهداً بالمثل القائل:
“إذا أردت كبر المحاجين عليك وعلى بتلة كوانين”، منوهاً إلى أن هذا المثل يعكس تجربة طويلة في حراثة الأرض خلال أشهر الشتاء لتحسين جودة التربة، وكذلك المثل:
“ما يسقي بكوانين إلا المجانين، والذي يحذر من سقي الأشجار المزهرة في أشهر كوانين لتجنب تساقط الأزهار وانخفاض الإنتاج.
ويؤكد مروان جبار أن الأمثال مثل: “مذرا الوقوف لا خبز ولا نشوف”، حيث يوضح بدقة مواعيد الزراعة التي ينبغي تجنبها، ما يدل على عمق الفهم الفلكي والتجريبي للمزارعين اليمنيين، مشيراً إلى أهمية التقليم في العنب، كما جاء في المثل: “بقس العنب في حد عشر”، والذي يحدد توقيت تقليم العنب خلال شهر يناير لتحسين الإنتاج.
ويؤكد المهتم بالتراث الزراعي مروان جبار على أهمية التوثيق لهذا التراث توثيقاً علمياً عبر مراكز دراسات وكليات الزراعة.
و يقول: “هذا الموروث الزراعي هو إرث ثقافي أو شعبي، ومرجع غني بالمعرفة والخبرة التي تحتاج إلى البحث العلمي والتوثيق”، مضيفاً أننا بحاجة إلى مشاريع بحثية تحلل الأمثال، وتثبت علمياً فائدتها لتكون مرجعاً للأجيال القادمة، تماماً كما كانت للأجيال السابقة أساساً لنجاح زراعتهم وتنميتها.”

خلاصة تجارب طويلة
من جانبه يرى الباحث الفلكي فضل أحمد علي أن الموروث الشعبي الزراعي ليس مجرد كلمات توارثتها الأجيال، بل هو خلاصة تجارب طويلة ومعارف عميقة تُسهم في تشكيل الحاضر الزراعي وتوجيه المستقبل.
ويقول: “لكل شعب ماضيه وحضارته التي ترسم ملامح حياته الحالية، وتمنح الأجيال اللاحقة خلاصة تجارب السابقين، خصوصاً في مجال الزراعة الذي يعدّ أساساً لحياة الإنسان ومعاشه منذ الأزل.”
ويضيف: “حياة الإنسان في الماضي كانت تعتمد بشكل كامل على الزراعة، فهي مصدر غذائه ولباسه، ومن خلالها شيد مساكنه واستقر في الأرض، لذا، فإن الموروث الشعبي الزراعي يمثل اليوم كنزاً لا مادياً، يستمد منه الإنسان خبرات وقواعد تُعينه على تحسين الإنتاج الزراعي، وتعزيز الأمن الغذائي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي.”
ويؤكد فضل أن الأمثال الزراعية أدت دوراً جوهرياً في توجيه العمليات الزراعية، وتنظيمها وفق خطط حكيمة، مبيناً أن “الأمثال بالتأكيد هي دستور زراعي يوجه المزارعين في كل شيء، بدءاً من إعداد التربة، مروراً بزراعة المحاصيل وتحديد مواسمها، وانتهاءً بعمليات الحصاد وتخزين الحبوب.
ويسرد عدداً من الأمثال كنماذج على ذلك، من بينها ما يأتي كقاعدة طقسية: “لا حر ولا برد إلا بعد الانصراف”، حيث يحدد هذا المثل حالة الطقس بعد الانصراف الشمسي الصيفي أو الشتوي، ما يساعد المزارعين على توقيت زراعاتهم.
ومثال آخر:”في التسع نبقس ونشرع والسبع تبدى كرومه”، حيث يوجه هذا المثل مزارعي العنب إلى تقليم الأشجار في الشهر التاسع (يناير)، بينما يبدأ ظهور كروم العنب في الشهر السابع (مارس).
ويوضح أن الموروث الزراعي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج آلاف السنين من التجارب المتراكمة. “منذ عصور ما قبل الإسلام وحتى اليوم، فقد انتقلت هذه المعارف من جيل إلى آخر، منها ما نُقل شفاهياً، ومنها ما وثقته المخطوطات الزراعية والفلكية.”
ويتابع: “رغم ذلك، لا يزال هذا الموروث بحاجة إلى المزيد من البحث والتوثيق، خاصة في ظل التحديات المعاصرة التي أدت إلى تراجع الاهتمام بالحياة الزراعية أمام زحف الأنشطة التجارية والإدارية الحديثة.”
ويشير فضل إلى أن الموروث الشعبي الزراعي يُعزز من جودة الإنتاج الزراعي، مستشهداً بالمثل القائل: “مطر السادس يرد الماء في العود اليابس” الذي يعبر عن أمل المزارعين في هطول الأمطار المتأخرة لإنقاذ الزرع.
ويضيف: “حتى التسميد وأوقات معالجة التربة لم تغب عن هذا الموروث، مثل المثل: ‘في آذار اذبل ولو بحجار” الذي يحدد موعد ذبل التربة بمخلفات الحيوانات لتحسين خصوبتها.”
ويرى فضل أن الحفاظ على هذا الإرث يتطلب جهداً جماعياً يشمل المزارعين والباحثين والمؤسسات.
ويقول: “إن الاهتمام بهذا الموروث وتوثيقه لا يقتصر على الجانب التراثي، بل يتعداه ليصبح قاعدة علمية يمكن تطويرها وتعليمها في الأكاديميات الزراعية، لافتاً إلى أننا بحاجة إلى مشاريع بحثية تُظهر القيم العلمية لهذه الأمثال وتجعلها قابلة للتطبيق في الزراعة الحديثة، مؤكداً أن المزارع اليمني لا يزال يثق في الموروث الشعبي الزراعي أكثر من أي مصدر آخر.
ويقول: “الأمثال الزراعية ليست مجرد أقوال يتداولها الناس، بل هي توجيهات من حكيم يمني عاصر الظروف وعرف الزراعة في أدق تفاصيلها، ولهذا، تجد المزارع يتجاوز توصيات المرشدين الزراعيين ويأخذ بما ورثه عن أجداده.”
ويشدد الباحث الفلكي فضل أحمد علي، على أن الموروث الشعبي الزراعي ليس إرثاً لفئة محددة، بل هو نتاج وطني يمني شامل يعكس تراكمات حضارية وإنسانية غنية.
ويرى أن هذا الموروث يحتاج إلى الاهتمام والتطوير ليظل جزءاً من هوية الزراعة اليمنية، ويستمر في خدمة الإنسان والأرض، تماماً كما فعل على مدى قرون طويلة.”

الباحث مروان جبار: الموروث الشعبي الزراعي عبارة عن إرث ثقافي ومنظومة معرفية عميقة استندت إلى ملاحظات دقيقة للبيئة على مدى قرون

الباحث الفلكي فضل أحمد علي: الموروث الشعبي الزراعي يمثل اليوم كنزاً لا مادياً يستمد منه الإنسان خبرات وقواعد تُعينه على تحسين الإنتاج الزراعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى