إرث حضاري يجسد الهوية والتراث
تمثل تهامة، بسهولها وساحلها الممتد على طول البحر الأحمر، إرثًا غنيًا يعكس أصالة الإنسان اليمني وارتباطه الوثيق بأرضه وبحاره.
وتزخر تهامة، بموروث شعبي غني ومتنوع يعكس روح الأصالة والإبداع، ويجمع هذا الموروث بين الزراعة التقليدية والصيد البحري، اللذان شكّلا عبر القرون جزءاً لا يتجزأ من حياة السكان وثقافتهم اليومية.
ويُعد الموروث الشعبي التهامي في قطاعي الزراعة والصيد نموذجًا فريدًا يجسد العلاقة المتجذرة بين الإنسان وبيئته، حيث تتعدد الحكايات والأهازيج والعادات التي ارتبطت بمواسم الحصاد والصيد، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمنطقة.
اليمن الزراعية -|أيوب أحمد هادي
الزراعة التقليدية: إرث متجدد
وفي السياق يقول مدير عام الهيئة العامة لتطوير تهامة المهندس فواز العذري إن الموروث الشعبي التهامي، سواء في الزراعة أو الصيد، ليس مجرد تقليد عابر، بل هو شهادة حية على قدرة الإنسان على التكيف مع بيئته واستثمار مواردها بطرق إبداعية، مبيناً أنه إرث يستحق الاهتمام والتوثيق، كونه يعكس تاريخاً طويلاً من العمل الدؤوب والحياة البسيطة التي تجمع بين الإنسان والطبيعة في تناغم فريد.
ويضيف: “تُعد الزراعة من أهم مقومات الحياة في تهامة، حيث تتميز المنطقة بخصوبة أراضيها الزراعية ووفرة المياه بسبب وجود وديان كبيرة مثل وادي زبيد ووادي سهام.
ويعتمد المزارعون التهاميون فيها على تقنيات زراعية تقليدية توارثوها جيلاً بعد جيل، لافتاً إلى أن تهامة تشتهر بزراعة المحاصيل الموسمية، مثل الذرة الرفيعة، والدخن، والسمسم، بالإضافة إلى زراعة أشجار النخيل التي تنتج أجود أنواع التمور.
ويعد “المنجل” و”المحراث” و”الجاروف” من الأدوات التقليدية التي لا تزال تستخدم في هذه الزراعة، وصولاً إلى ري الأراضي عبر نظام “السواقي” الذي يُعد من أبرز معالم الموروث الزراعي في المنطقة، مما يعكس ارتباط السكان بتراثهم واعتزازهم بطرقهم التقليدية.
ويبين العذري أنه وأثناء استخراج الحبوب لا يزال الكثير من المزارعين في تهامة يستخدمون “المجران” وهو عبارة عن حوض يتم فيه ضرب السنابل بالعصي، ومن ثم غربلتها وتصفيتها وإخراج الحبوب بشكل كامل ونقي، وتستخدم هذه الطريقة مع محصول الدخن والذرة الرفيعة والسمسم والدجرة، منوهاً إلى أن الأسواق الشعبية في تهامة تعد مكانًا لعرض المحاصيل وتبادل الخبرات الزراعية، حيث يتجمع المزارعون لبيع منتجاتهم وتبادل الحكايات عن المواسم الزراعية، وهذا يعد من الموروث الشعبي.
الري الفيضي، أو السيلي، هو تراث ري تقليدي قديم، توارثته الأجيال لآلاف السنين في اليمن وفي تهامة تحديداً، ويتم تدريسه وعرضه في أعرق معاهد المياه في العالم، ويتم تعميم ونقل تجربته الى دول عديدة لها نفس الظروف ولكن لم تتوصل أو تستخدم هذا التراث، فقد ابتكر المواطن اليمني التهامي هذا النظام، بحيث تستفيد الأراضي الزراعية من الفيضانات الموسمية قصيرة الأمد في الأرض الجافة عادة لري المحاصيل ومناطق الرعي، وإعادة تغذية المياه الجوفية.
الصيد البحري: حكايات البحر وأمواج العطاء
في الجانب السمكي، فإن تهامة تُعرف بثروتها البحرية الهائلة، حيث تُعد مهنة الصيد مصدر رزق أساسي للكثير من سكانها، الذين توارثوا أسرارها عبر الأجيال، فالصيادون التهاميون، بمهاراتهم الفريدة ومعرفتهم الواسعة بالبحر، يجسدون صورةً حية للارتباط الوثيق بالبيئة البحرية.
وعلى صعيد متصل يؤكد الكاتب والباحث في الموروث الشعبي التهامي، علي مغربي الأهدل، أن الزراعة والصيد يمثلان جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المنطقة وهويتها، مشيراً إلى أنهما مصدران رئيسيان للدخل لكثير من أبناء تهامة.
ويشير الأهدل إلى أن الموروث التهامي يتمتع بخصوصية فريدة تجعله متفرداً عن بقية المجتمعات في مختلف الجوانب، سواء في اللهجات أو الأدب الشعري أو الفنون أو المهن التقليدية المتعلقة بالزراعة والصيد. ويتابع قائلاً: “لدى المجتمع التهامي أهازيجه الخاصة التي تُغنى أثناء النشاطات الاقتصادية، مثل الأهازيج الزراعية، وأغاني البحر الخاصة بالصيادين.. هذه الفنون الشعبية تعكس هوية المجتمع التهامي وتبرز ملامحه المستقلة والفريدة”.
ويضيف أن هذه الأهازيج ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل هي تعبير حي عن ثقافة السكان، وارتباطهم العميق بالطبيعة، حيث ترافقهم في أعمالهم اليومية، وتعزز الروح الجماعية في كل من الزراعة والصيد.
ويشير إلى أن دخول الآلات والمعدات الحديثة في الزراعة والصيد أدى إلى تراجع استخدام الأدوات التقليدية، نظراً لزيادة الكفاءة وسرعة الأداء التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، موضحاً أن “هذا التغيير لا ينفي أهمية الحفاظ على الأدوات والمهن الشعبية التقليدية، بل يستدعي تدخل الجهات المختصة لتشجيع أصحاب المهن على استمرارية إنتاجها وتسويقها”.
الصيد بين الماضي والحاضر
يتحدث الصياد التقليدي عزيز عطيني في مقارنة بين مهنة الصيد التقليدي في الماضي والحاضر بقوله: “في الماضي، كانت مهنة الصيد تعتمد على أدوات بسيطة محلية الصنع مثل الشباك والحبال المصنوعة من سعف النخيل والقوارب الخشبية كالبوم والهوري، والصداف.
ويضيف: “كانت هناك أيضاً وسائل تقليدية لتخزين الأسماك مثل التمليح والتجفيف باستخدام أوعية مصنوعة من القماش أو الفخار، وكانت الممارسات تقليدية ومتوازنة مع البيئة، حيث يحرص الصيادون على تجنب الصيد الجائر ومراعاة مواسم التكاثر”.
ويواصل: “أما اليوم، فقد شهدت المهنة تغييرات ملحوظة، فالصيادون التقليديون ما زالوا يستخدمون بعض الأدوات التقليدية، لكن التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية أدت إلى استغلال مفرط للموارد البحرية، مما أثر على استدامة المخزون السمكي، كما أن نقص الوعي البيئي ساهم في تفاقم مشكلات الصيد الجائر”.
وعن مواسم الصيد في تهامة، يقول عطيني: “رغم عدم وجود مواسم محددة لصيد نوع معين، فإن الفترة من بداية شهر مايو وحتى نهاية أغسطس تُعرف بين الصيادين بـ ‘الكنّة’، حيث تشهد وفرة في أنواع عديدة من الأسماك، ويكثر فيها الصيد والإنتاج”، لافتاً إلى أن “هناك أيضاً مواسم إغلاق وفتح خلال فترات تكاثر بعض الأنواع مثل الحبار والجمبري الساحلي، مما يستدعي من الصيادين التكيف مع الظروف المناخية والتغيرات البيئية لضمان نجاح الموسم”.
الأهازيج البحرية والتراث الثقافي
عادة ما ترافق أهازيج الصيادين مغامراتهم في البحر، إذ يرددون ترانيمها صباحاً مع انطلاقتهم لكسب الرزق. وعن تلك الأهازيج البحرية التي يرددها الصيادون، يقول عبد الله حنش عاقل الصيادين في منطقة بن عباس: “الأهازيج ليست مجرد كلمات مغناة، بل هي جزء من التراث الثقافي للصيادين، مؤكداً أنها تُستخدم لتحفيز الروح المعنوية، وتنسيق العمل الجماعي، وخلق جو من المرح أثناء رحلات الصيد”.
ويوضح أن الأهازيج تعكس العلاقة العميقة بين الصيادين والبحر، حيث تتضمن إشارات إلى الطبيعة البحرية، وتُستخدم للاحتفال بنجاح الصيد، أو طلب الحظ الجيد.
ويواصل حنش حديثه قائلاً: “من بين تلك الكلمات التي يرددها الصيادون على طول الساحل الغربي: “واصياد واصياد… قبل أمشروق في أمهوري وحدك تصيد” “شد أمجلب كل حين… يطلع لك رزق جديد”.. وانا وانا واصياد.
ويضيف أن بعض تلك الأهازيج تصف تقلبات الرياح وارتفاع الأمواج التي تجعل رحلة الصيد صعبة، ومن تلك الكلمات: “ضرب شمالو وازيب” و “مناشري خمجنا” و “بحر امهواء كله فيه” و “ضربوا وفوقه زبطوا”.
ويشير إلى أن بعض الأهازيج تحمل معاني رمزية وروحية، مثل الدعاء للحماية والرزق، قائلاً: “على سبيل المثال، يردد الصيادون أهازيج مثل ‘خرجت من بيتي دعيتك يا رب… ركبت أنا امهوري ونسيت أمجلب’، التي تعبر عن التوكل على الله وطلب الحماية أثناء الرحلة”.
الفن الشعبي ودوره في تعزيز الهوية
بدوره يقول الشاعر الشعبي أحمد هيجة: “الأغاني التي ترتبط بالزراعة والصيد تحمل معاني عميقة، مثل الصبر والرضا والاعتماد على الله.
ويضيف: “للأسف، لا يوجد اهتمام كافٍ بتوثيق هذه الأغاني، لكننا نحاول من خلال الأمسيات الشعرية والمهرجانات الشعبية إبقاء هذا التراث حياً، لافتاً إلى أن الموروث الشعبي التهامي، سواء في الزراعة، أو الصيد، هو أكثر من مجرد أنشطة اقتصادية، بل هو جزء من هوية المنطقة وروحها.
ويواصل: “ورغم التحديات التي تواجه هذا الإرث، يبقى الأمل معقوداً على جهود الأفراد والمؤسسات لإحيائه وحمايته، ليظل شاهداً على العلاقة الفريدة بين الإنسان والطبيعة في تهامة”.
العذري: الموروث الشعبي التهامي سواء في الزراعة أو الصيد يستحق الاهتمام والتوثيق كونه يعكس تاريخاً طويلاً من العمل الدؤوب والحياة البسيطة التي تجمع بين الإنسان والطبيعة في تناغم فريد
الأهدل: الزراعة والثقافة البحرية لهما تأثير كبير في تشكيل ملامح الإنسان التهامي وهويته الثقافية