القاضي يحيى العنسي
رمـز التـراث الفلكـي والمـوروث الـزراعـي اليمنــي
اليمن الزراعية – محمد حاتم
في أحياء مدينة ذمار القديمة، حيث البيوت الطينية تتعانق تحت سماء مليئة بالنجوم، وُلد يحيى بن يحيى العنسي في 24ذي الحجة 1367ه الموافق 27أكتوبر 1948م.
لم تكن حياته منذ البداية سهلة، فقد كان الطفل الصغير يكافح وسط الفقر والحاجة، ونشأ في بيئةٍ علمية، حيث تلقى تعليمه الأولي في المدرسةِ الشمسية بذمار، باحثًا عن معنى في بريق النجوم.
نشأ يحيى في بيتٍ متواضع، يعجُ بصوت والده الذي كان قاضيًا بسيطًا يتحدث عن أهمية العلم والعدل.. كان الصغير يحيى يتلقى دروسًا قاسية في الحياة، بين عجز أسرته عن توفير احتياجاته، وبين حلمه بأن يصبح شخصًا يصنع الفرق.
أكمل دراسته الإعدادية في صنعاء قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م، وكان القاضي العنسي شغوفاً بالعلم، كثير الأسئلة، والتأمل، حيث كان يرفع عينيه إلى السماء، وكان يتساءل: “هل يمكنني فهم لغة النجوم؟ هل هناك سر يمكنه أن يغير مصيرنا؟”
تخرج من الكلية الحربية في العام 1967م، وحصل على شهادة بكالوريوس في العلوم العسكرية، مما أهله للعمل في الإشارة بالقوات المسلحة اليمنية.
شارك في الدفاع عن صنعاء أثناء حصار السبعين، كما درس في كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء، وعمل في القضاء العسكري.
كان شغوفاً للعلم منذ صغره، حيث كان يهتم بالنجوم، والكواكب، ويتساءل عن الظواهر الطبيعية، وقد تلقى معارفه الفلكية من علماء بارزين، مثل القاضي حسن بن يحيى الديلمي في ذمار، الذي شجعه على دراسة علم الفلك الزراعي، وكذلك القاضي أحمد الحاتمي في صنعاء.
وهناك اكتشف لأول مرة كتبًا عن الفلك والزراعة. كانت الكتب بالية، بعضها بلا غلاف، لكنه قرأ كل كلمة بشغف.
لاحظ أستاذه ولعه بعلم الفلك، وشجعه قائلاً: “لديك عين ترى ما لا يراه الآخرون.. ابحث عن النور في هذا الظلام.”
عندما كان في السلك العسكري كان يحمل بندقيته بيد، ودفترًا صغيرًا في اليد الأخرى، يدون فيه ملاحظات عن النجوم، والقمر، ودورانها في السماء.
ظل يدرس الفلك الزراعي، مكرساً حياته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الموروث اليمني القديم، يجوب القرى اليمنية، يتحدث مع الفلاحين عن دور الكواكب في تحديد مواسم الزراعة، يستمع منه إلى الأمثال، والحكم، والقصائد الشعرية في الموروث الزراعي، وأقوال علي ولد زايد، والحميد بن منصور وآخرين.
عمل محاضراً في كلية الزراعة بجامعتي صنعاء وذمار لفترة قصيرة، كما شغل منصب الأمين العام للجمعية الفلكية اليمنية، وهو أحد مؤسسيها.
له العديد من المؤلفات التي تسلط الضوء على الموروث الزراعي والفلكي في اليمن ومنها:
-الدائرة الفلكية الزراعية لليمن 1979م.
-الدائرة المعدلة طبعه 1996م.
-التقويم الزراعي الحميري في اليمن.
-كتاب المعالم الزراعية في اليمن 1998م.
-التراث الزراعي، ومعارفه في اليمن بأربعة أجزاء.
-كتاب المواقيت الزراعية في أقوال على بن زايد، والحميد بن منصور طبع 2003م.
-معرفة علم المواقيت.
-لوحة الدليل العلمي للتعرف على نجوم المعالم الزراعية طبع 2011م.
-كتاب معرفه علم المواقيت، طبع عام 2024م.
تعد أعماله مرجعاً هاماً للباحثين والمهتمين بالزراعة والفلك في اليمن، حيث جمع ودون الموروث الزراعي من مختلف المحافظات، وساهم في نشر المعرفة الزراعية والفلكية التقليدية.
لكن هذا التفاني، لم يكن موضع تقدير دائمًا.
كان يرى مؤلفاته تُهمل، وأفكاره تُدفن وسط تجاهل كبير من الجهات المعنية. ظل يعاني بصمت، يشعر بثقل الظلم الذي يطارد أحلامه، فمؤلفاته لم تمنح وأبحاثه الدعم الذي يستحقه، ولم تدمج معرفته في المناهج التعليمية، كما كان يأمل، لكنه ظل يعمل في صمت وإصرار، مؤمناً أن ما يزرعه اليوم سيؤتي ثماره في المستقبل.
وفي سنواته الأخيرة، كان يجلس في زاوية مكتبه الصغير، يُحدق في كتب مكدسة ومخطوطات متهالكة، قائلاً لنفسه: “ربما لن يروا قيمتها الآن، لكن يوماً ما سيدركون.”
ومع بداية الثورة الزراعية، بدأ الاهتمام بالقاضي العنسي من قبل قيادة اللجنة الزراعية والسمكية العليا، فتم إعادة طباعة كتابه «التراث الزراعي ومعارفه في اليمن أربعة أجزاء، من قبل وزارة الزراعة، كما حظي بتكريم من قبل صحيفة “اليمن الزراعية” و “الاعلام الزراعي والسمكي”.
وينتظر القاضي العنسي طباعة بقية مؤلفاته في علم الفلك والتراث الزراعي.
سيظل القاضي يحيى بن يحيى العنسي اسما ً لامعاً في علم الفلك والنجوم والموروث الزراعي اليمني، وستظل كتبه ومؤلفاته وموروثاته شاهدة على رجل عانق السماء، وحفر اسمه في الأرض، وأفنى حياته في توثيق، وتدوين جزء من الموروث الزراعي اليمني.. ويأمل في توثيق وتدوين الموروث والتراث الزراعي بشكل كامل.
أطال الله عمره ،وجزاه الله خير الجزاء.